الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي للفتاوي ***
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد فقد طال السؤال عن السبحة هل لها أصل في السنة فجمعت فيها هذا الجزء متتبعا فيه ما ورد فيها من الأحاديث والآثار والله المستعان: أخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وصححه عن ابن عمرو قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيده. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي والحاكم عن بسيرة وكانت من المهاجرات قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس ولا تغفلن فتنسين التوحيد واعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات ومستنطقات. وأخرج الترمذي والحاكم والطبراني عن صفية قالت دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يدي أربعة آلاف نواة اسبح بهن فقال ما هذا يا بنت حيي قلت أسبح بهن قال قد سبحت منذ قمت على رأسك اكثر من هذا قلت علمني يا رسول الله قال قولي سبحان الله عدد ما خلق من شيء - صحيح أيضا. وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه عن سعد بن أبي وقاص أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة وبين يديها نوى أو حصى تسبح فقال أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا وأفضل قولي سبحان الله عدد ما خلق في السماء سبحان الله عدد ما خلق في الأرض سبحان الله عدد ما بين ذلك وسبحان الله عدد ما هو خالق الله أكبر مثل ذلك والحمد لله مثل ذلك ولا إله إلا الله مثل ذلك ولا قوة إلا بالله مثل ذلك. وفي جزء هلال الحفار ومعجم الصحابة للبغوي وتاريخ ابن عساكر من طريق معتمر بن سلميان عن أبي بن كعب عن جده بقية عن أبي صفية مولى النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يوضع له نطع ويجاء بزنبيل فيه حصى فيسبح به إلى نصف النهار ثم يرفع فإذا صلى الأولى أتى به فيسبح به حتى يمسي. وأخرجه الإمام أحمد في الزهد ثنا عفان ثنا عبد الواحد بن زياد عن يونس بن عبيد عن أمه قالت رأيت أبا صفية رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان جارنا قالت فكان يسبح بالحصى. وأخرج ابن سعد عن حكيم بن الديلمي أن سعد بن أبي وقاص كان يسبح بالحصى. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن مولاة لسعد أن سعدا كان يسبح بالحصى أو النوى. وقال ابن سعد في الطبقات أنا عبيد الله بن موسى أنا إسرائيل عن جابر عن امرأة حدثته عن فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب أنها كانت تسبح بخيط معقود فيها. وأخرج عبد الله بن الإمام أحمد في ؟ من طريق نعيم بن محرر ابن أبي هريرة عن جده أبي هريرة أنه كان له خيط فيه ألفا عقدة فلا ينام حتى يسبح به. وأخرج أحمد في الزهد ثنا مسكين بن نكير أنا ثابت بن عجلان عن القاسم بن عبد الرحمن قال كان لأبي الدرداء نوى من نوى العجوة في كيس فكان إذا صلى الغداة أخرجهن واحدة واحدة يسبح بهن حتى ينفدن. وأخرج ابن سعد عن أبي هريرة أنه كان يسبح بالنوى المجزع. وقال الديلمي في مسند الفردوس أنا عبدوس ابن عبد الله أنا أبو عبد الله الحسين بن فتحويه الثقفي ثنا علي بن محمد بن نصرويه ثنا محمد بن هرون بن عيسى بن المنصور الهاشمي حدثني محمد بن علي بن حمزة العلوي حدثني عبد الصمد بن موسى حدثتني زينب بنت سليمان بن علي حدثتني أم الحسن بنت جعفر بن الحسين عن أبيها عن جدها عن علي مرفوعا نعم المذكر السبحة. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري أنه كان يسبح بالحصى. وأخرج من طريق ابي نضرة عن رجل من الطفاوة قال نزلت على أبي هريرة ومعه كيس فيه حصى أو نوى فيسبح به حتى ينفد. وأخرج عن زادان قال أخذت من أم يعفور تسابيح لها فلما أتيت عليا قال أردد على أم يعفور تسابيحها. ثم رأيت في كتاب تحفة العباد ومصنفه متأخر عاصر الجلال البلقيني فصلا حسنا في السبحة قال فيه ما نصه: قال بعض العلماء عقد التسبيح بالأنامل افضل من السبحة لحديث ابن عمرو لكن يقال إن المسبح إن آمن من الغلط كان عقده بالأنامل افضل وإلا فالسبحة أولى وقد اتخذ السبحة سادات يشار إليهم ويؤخذ عنهم ويعتمد عليهم كأبي هريرة رضي الله كان له خيط فيه ألفا عقدة فكان لا ينام حتى يسبح به ثنتي عشر ألف تسبيحة قال عكرمة، وفي سنن أبي داود من حديث أبي بصرة الغفاري قال حدثني شيخ من طفاوة قال تثويت أبا هريرة بالمدينة فلم أر رجلا أشد تشميرا ولا أقوم على ضيف منه قال فبينما أنا عنده يوما وهو على سرير له ومعه كيس فيه حصى أو نوى وأسفل منه جارية سوداء وهو يسبح بها حتى إذا أنفد ما في الكيس ألقاه إليها فأعادته في الكيس فدفعته إليه يسبح قوله تثويت أي تضيفته ونزلت في منزله والمثوى المنزل وقيل كان أبو هريرة رضي الله عنه يسبح بالنوى المجزع يعني الذي حك بعضه حتى أبيض شيء منه وترك الباقي على لونه وكل ما فيه سواد وبياض فهو مجزع قاله أهل اللغة وذكر الحافظ عبد الغني في الكمال في ترجمة أبي الدرداء عويمر رضي الله عنه أنه كان يسبح في اليوم مائة ألف تسبيحة وذكر أيضا عن سلمة بن سبيب قال كان خالد بن معدان يسبح في اليوم أربعين ألف تسبيحة سوى ما يقرأ فلما وضع ليغسل جعل بأصبعه كذا يحركها يعني بالتسبيح. ومن المعلوم المحقق أن المائة ألف بل والأربعين ألفا وأقل من ذلك لا يحصر بالأنامل فقد صح بذلك وثبت أنهما كانا يعدان بآلة والله أعلم وكان لأبي مسلم الخولاني رحمه الله سبحة فقام ليلة والسبحة في يده قال فاستدارت السبحة فالتفت على ذراعه وجعلت تسبح فالتفت أبو مسلم والسبحة تدور في ذراعه وهي تقول سبحانك يا منبت النبات ويا دائم الثبات قال هلمي يا أم مسلم فانظري إلى أعجب الأعاجيب قال فجاءت أم مسلم والسبحة تدور وتسبح فلما جلست سكتت ذكره أبو القاسم هبة الله بن الحسن الطبري في كتاب كرامات الأولياء وقال الشيخ الإمام العارف عمر البزار كانت سبحة الشيخ أبي الوفا كاكيش وبالعربي عبد الرحمن التي أعطاها لسيدي الشيخ محي الدين عبد القادر الكيلاني قدس الله أرواحهم إذا وضعها على الأرض تدور وحدها حبة حبة. وذكر القاضي أبو العباس أحمد بن خلكان في وفيات الأعيان أنه رؤى في يد أبي القاسم الجنيد بن محمد رحمه الله يوما سبحة فقيل له أنت مع شرفك تأخذ بيدك سبحة قال طريق وصلت به إلى ربي لا أفارقه قال وقد رويت في ذلك حديثا مسلسلا وهو ما أخبرني به شيخنا الإمام أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد الله من لفظه ورأيت في يده سبحة قال أنا الإمام أبو العباس أحمد بن أبي المحاسن يوسف بن البانياسي بقراءتي عليه ؟ في يده سبحة قال أنا أبو المظفر يوسف بن محمد بن مسعود الترمذي ورأيت في يده سبحة قال قرأت على شيخنا أبي الثناء ورأيت في يده سبحة قال أنا أبو محمد يوسف بن أبي الفرح عبد الرحمن ابن علي ورأيت في يده سبحة قال أنا أبي ورأيت في يده سبحة قال قرأت على أبي الفضل بن ناصر ورأيت في يده سبحة قال قرأت على أبي محمد عبد الله بن أحمد السمرقندي ورأيت في يده سبحة قلت له سمعت أبا بكر محمد بن علي السلمي الحداد ورأيت في يده سبحة فقال نعم قال رأيت أبا نصر عبد الوهاب بن عبد الله بن عمر للقرى ورأيت في يده سبحة قال رأيت أبا الحسن علي بن الحسن بن أبي القاسم المترفق الصوفي وفي يده سبحة قال سمعت أبا الحسن المالكي يقول وقد رأيت في يده سبحة فقلت له يا أستاذ وأنت إلى الآن مع السبحة فقال كذلك رأيت أستاذي الجنيد وفي يده سبحة فقلت يا أستاذ وأنت إلى الآن مع السبحة قال كذلك رأيت أستاذي سرى بن مغلس السقطي وفي يده سبحة فقلت يا أستاذ أنت مع السبحة فقال كذلك رأيت أستاذي معروف الكرخي وفي يده سبحة فسألته عما سألتني عنه فقال كذلك رأيت أستاذي عمر المكي وفي يده سبحة فسألته عما سألتني عنه فقال كذلك رأيت أستاذي الحسن البصري وفي يده سبحة فقلت يا أستاذ مع عظم شأنك وحسن عبادتك وأنت إلى الآن مع السبحة فقال لي شيء كنا استعملناه في البدايات ما كنا نتركه في النهايات أحب أن أذكر الله بقلبي وفي يدي ولساني فلو لم يكن في اتخاذ السبحة غير موافقة هؤلاء السادة والدخول في سلكهم والتماس بركتهم لصارت بهذا الاعتبار وأكدها فكيف بها وهي مذكرة بالله تعالى لأن الإنسان قل أن يراها إلا ويذكر الله وهذا من أعظم فوائدها وبذلك كان يسميها بعض السلف رحمه الله تعالى. ومن فوائدها أيضا الاستعانة على دوام الذكر كلما رآها ذكر أنها آلة للذكر فقاده ذلك إلى الذكر فيا حبذا سبب موصل إلى دوام ذكر الله عز وجل وكان بعضهم يسميها حبل الموصل وبعضهم رابطة القلوب. وقد أخبرني من أثق بقوله أنه كان مع قافلة في درب بيت المقدس فقام عليهم سرية عرب وجردوا القافلة جميعهم وجردوني معهم فلما أخذوا عمامتي سقطت مسبحة من رأسي فلما رأوها قالوا هذا صاحب سبحة فردوا على ما كان أخذ لي وانصرفت سالما منهم فانظر يا أخي إلى هذه الآلة المباركة الزاهرة وما جمع فيها من خير الدنيا والآخرة ولم ينقل عن أحد من السلف ولا من الخلف المنع من جواز عد الذكر بالسبحة بل كان أكثرهم يعدونه بها ولا يرون ذلك مكروها وقد رؤي بعضهم يعد تسبيحا فقيل له أتعد على الله فقال لا ولكن أعد له والمقصود أن أكثر الذكر المعدود الذي جاءت به السنة الشريفة لا ينحصر بالأنامل غالبا ولو أمكن حصره لكان الاشتغال بذلك يذهب الخشوع وهو المراد والله أعلم. وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن بكر بن خنيس عن رجل سماه قال كان في يد أبي مسلم الخولاني سبحة يسبح بها قال فنام والسبحة في يده فاستدارت السبحة فالتفت على ذراعه وجعلت تسبح فالتفت أبو مسلم والسبحة تدور في ذراعه وهي تقول سبحانك يا منبت النبات ويا دائم الثبات فقال هلم يا أم مسلم وانظري إلى أعجب الأعاجيب فجاءت ام سلمة والسبحة تدور تسبح فلما جلست سكنت. وقال عماد الدين المناوي في سبحة: ومنظومة الشمل يخلو بها * اللبيب فتجمع من همته إذا ذكر الله جل اسمه * عليها تفرق من هيبته
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، سئلت عن حديث من قال أنا عالم فهو جاهل. الجواب: هذا إنما يعرف من كلام يحيى بن أبي كثير موقوفا عليه على ضعف في إسناده إليه ويحيى من صغار التابعين فإنه رأى أنس بن مالك وحده وقد يعد في أتباع التابعين باعتبار أنه لم يلق غيره من الصحابة ولا يعرف له عن أحد منهم رواية متصلة وقد وهم بعض الرواة فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم إن وجد عنه الجزم بذلك وذلك أن الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق ليث ابن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وقال الطبراني لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد وهذا الحديث حكم عليه الحفاظ بالوهم في رفعه فإن ليث بن أبي سليم متفق عليه قال فيه أحمد بن حنبل مضطرب الحديث وقال ما رأيت يحيى بن سعيد ؟ رأيا في أحد منه في ليث لا يستطيع أحد أن يراجعه فيه وقال فيه ابن معين ؟ ضعيف وقال فيه ابن معين: ليث أضعف من عطاء بن السائب وقال عثمان بن أبي شيبة سألت جريرا عن ليث وعن عطاء ابن السائب وعن يزيد بن أبي زياد فقال كان يزيد أحسنهم استقامة في الحديث ثم عطاء وكان ليث أكثرهم تخليطا قال عبد الله بن أحمد بن حنبل وسألت أبي عن هذا فقال أقول كما قال جرير، وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا يحيى بن معين عن يحيى بن سعيد القطان أنه كان لا يحدث عن ليث بن أبي سليم وقال عمرو بن علي كان يحيى لا يحدث عن ليث بن أبي سليم وقال أبو معمر القطيعي كان ابن عيينة يضعف ليث بن أبي سليم وقال علي بن المديني قلت لسفيان إن ليثا روى عن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ فانكر ذلك سفيان وعجب منه أن يكون جد طلحة لقي النبي صلى الله عليه وسلم وقال علي بن محمد الطنافسي سألت وكيعا عن حديث من حديث ليث بن أبي سليم فقال ليث ليث كان سفيان لا يسمى ليثا وقال قبيصة قال شعبة لليث بن أبي سليم أين اجتمع لك عطاء وطاووس ومجاهد فقال إذ أبوك يضرب بالخف ليلة عرسه فما زال شعبة متقيا لليث مذ يومئذ. وقال أبو حاتم أقول في ليث كما قال جرير بن عبد الحميد، وقال ابن أبي حاتم سمعت أبي وأبا زرعة يقولان ليث لا يشتغل به وهو مضطرب الحديث وقال أبو زرعة أيضا ليث لا تقوم به الحجة عند أهل العلم بالحديث وقال مؤمل بن الفضل قلنا لعيسى بن يونس لم تسمع من ليث بن أبي سليم قال قد رأيته وكان قد اختلط وكان يصعد المنارة ارتفاع النهار فيؤذن وقال ابن حبان اختلط في آخر عمره هذا مجموع كلام أئمة الحديث في تخريجه. والحاصل أنه كان في حال صحة عقله كثير التخليط في حديثه بحيث جرح بسبب ذلك ثم طرأ له بعد ذلك الاختلاط في عقله فازداد حاله سوءا وحكم المختلط الذي كان قبل اختلاطه من الثقات الحفاظ المحتج بهم أن ما رواه بعد اختلاطه يرد وكذا ما شك فيه هل رواه قبل الاختلاط أو بعده فإنه مردود. فإذا كان هذا حكم من اختلط من الثقات الحفاظ الذين يحتج بهم فكيف بمن اختلط من الضعفاء المجروحين الذين لا يحتج بهم قبل طروء الاختلاط عليهم. وقد جرت عادة الحفاظ إذا ترجموا أحدا ممن تكلم فيه أن يسردوا في ترجمته كثيرا من الأحاديث التي أنكرت عليه وإن كان له أحاديث سواها صالحة نبهوا على أن ما عدا ما سردوه من أحاديثه صالح مقبول خصوصا إذا كان ذلك الرجل ممن خرج له في أحد الصحيحين فإنهم يقولون إن صاحب الصحيح لم يخرج من حديثه إلا ما صح عنده من طريق غيره فلا يلزم من ذلك قبول كل ما رواه هكذا نصوا عليه. وهذا الرجل روى له مسلم مقرونا بأبي إسحاق الشيباني فالحجة في رواية أبي إسحاق والحديث الذي خرجه صحيح من طريق أبي إسحاق لا من طريق ليث ابن أبي سليم. ولما ترجمه ابن عدي في الكامل سرد أحاديثه التي أنكرت عليه ثم قال له أحاديث صالحة غير ما ذكرت، وكذا صنع الحافظ الذهبي في الميزان سرد له أكثر من عشرة أحاديث أنكرت عليه منها هذا الحديث الذي نحن فيه أعني حديث من قال أنا عالم فهو جاهل، وحديث من ولد له ثلاثة أولاد فلم يسم أحدهم محمد فقد جهل، وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات، وحديث كان باليمن ماء يقال له زعاق من شرب منه مات فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وجه إليه أيها الماء أسلم فقد أسلم الناس فكان بعد ذلك من شرب منه حم ولا يموت، في أحاديث أخر على أن هذا الحديث الذي نحن فيه لم يجزم ليث برفعه لقوله فيما تقدم لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذه صيغة تقال عند الشك. ومما يؤيد بطلان هذا الحديث الذي نحن فيه من جهة المعنى ثبوت هذا اللفظ عن جماعة من الصحابة منهم علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود ومعاوية بن أبي سفيان وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم وما كان هؤلاء ليقعوا في شيء ورد فيه ذم عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا ثبت مثل ذلك عن خلائق لا يحصون من التابعين فمن بعدهم كما سقت رواياتهم وألفاظهم في الكتاب المسمى بالصواعق على النواعق ولا شك أن مثل هؤلاء الأئمة لا يطبقون على التلفظ بما ذم النبي صلى الله عليه وسلم التلفظ به ؟ ذلك قول نبي الله يوسف عليه السلام فيما حكاه الله عنه في التنزيل إني ؟ عليم. فإن قلت كيف حكم على الحديث بالإبطال وليث لم يتهم بكذب؟. قلت الموضوع قسمان قسم تعمد واضعه وضعه وهذا شأن الكذابين، وقسم وقع غلطا لا عن قصد وهذا شأن المخلطين والمضطربين الحديث كما علم الحفاظ بالوضع على الحديث الذي اخرجه ابن ماجه في سننه وهو من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار فانهم أطبقوا على انه موضوع وواضعه لم يتعمد وضعه وقصته في ذلك مشهورة وإلى ذلك أشار العراقي في ألفيته بقوله: ومنه نوع وضعه لم يقصد. نحو حديث ثابت من كثرت صلاته الحديث. وهلة سرت وأكثر ما يقع الوضع للمغفلين والمخلطين والسيئي الحفظ يعزو كلام غير النبي صلى الله عليه وسلم إليه أما كلام تابعي أو حكيم أو أثر إسرائيلي كما وقع في المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء وحب الدنيا رأس كل خطيئة وغير ذلك يكون معروفا بعزوه إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم فيلتبس على المخلط فيرفعه إليه وهما منه فيعده الحفاظ موضوعا وما ترك الحفاظ بحمد الله شيئا إلا بينوه (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ولكن يحتاج إلى سعة النظر وطول الباع وكثرة الإطلاع وقد يقع الوضع في لفظة من الحديث لا في كله كحديث لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر أو جناح فإن الحديث صدره ثابت وقوله أو جناح موضوع تعمده واضع تقربا إلى الخليفة المهدي لما كان مشغوفا باللعب بالحمام. وقد وقع نظير ذلك لليث هذا صاحب هذا الحديث فإنه روى عن مجاهد وعطاء عن أبي هريرة في الذي وقع على أهله في رمضان قال له النبي صلى الله عليه وسلم اعتق رقبة قال لا أجد قال أهد بدنة قال لا أجد قال الحفاظ ذكر البدنة فيه منكر والظاهر أن ليثا إنما زادها غفلة وتخليطا لا عن قصد وعمد والله أعلم.
تحرير المسألة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى قال البخاري في صحيحه "باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره" وأورد فيه حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وشبك بين أصابعه، وحديث أبي هريرة صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي فصلى بنا ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فإتكا عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه، قال الحافظ ابن حجر في شرحه: حديث أبي موسى دال على جواز التشبيك مطلقا، وحديث أبي هريرة دال على جوازه في المسجد فهو في غيره أجوز. ووقع في بعض نسخ البخاري قبل هذين الحديثين حديث آخر نصه حدثنا حامد بن عمر ثنا بشر ثنا عاصم ثنا واقد عن أبيه عن ابن عمر قال شبك النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه، قال الحافظ مغلطاي هذا الحديث ليس موجودا في أكثر نسخ الصحيح، وقال الحافظ ابن حجر هو ثابت في رواية حماد بن شاكر عن البخاري قال ابن بطال المقصود من هذه الترجمة معارضة ما ورد في النهي عن التشبيك في المسجد وقد وردت فيه مراسيل ومسند من طرق غير ثابتة. وقال ابن المنير التحقيق أنه ليس بين الأحاديث تعارض إذ المنهي عنه فعله على وجه العبث، وجمع الإسماعيلي بأن النهي مقيد بما إذا كان في الصلاة أو قاصدا إليها إذ منتظر الصلاة في حكم المصلى. وقيل إن حكمة النهى عنه لمنتظر الصلاة أن التشبيك يجلب النوم وهو من مظان الحدث، وقيل إن صورته تشبه صورة الاختلاف فكره ذلك لمن هو في حكم الصلاة حتى لا يقع في المنهي عنه وهو قوله صلى الله عليه وسلم للمصلين ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم. وقال الحافظ مغلطاي في شرح البخاري: زعم بعضهم أن هذه الأحاديث التي أوردها البخاري في هذا الباب معارضة لحديث النهي عن التشبيك، وقال ابن بطال إن حديث النهي ليس مساويا لهذه الأحاديث في الصحة، وقال الأكثر حديث النهي مخصوص بالصلاة وهو قول مالك روى عنه أنه قال إنهم لينكرون تشبيك الأصابع في المسجد وما به بأس وإنما يكره في الصلاة ورخص فيه ابن عمر وسالم ابنه فكانا يشبكان بين أصابعهما في الصلاة، ثم قال مغلطاي والتحقيق أنه ليس بين حديث النهي عن التشبيك وبين تشبيكه صلى الله عليه وسلم بين أصابعه معارضة لأن النهي إنما ورد عن فعله في الصلاة أو في المضي إليها وفعله صلى الله عليه وسلم للتشبيك ليس في صلاة ولا في المضي إليها فلا معارضة إذن وبقي كل حديث على حياله انتهى قلت ومن الأحاديث في تشبيكه صلى الله عليه وسلم ما أخرجه البخاري والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة محتبيا بيده هكذا زاد البيهقي وشبك بين أصابعه. وأخرج أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كيف بكم وبزمان يغربل الناس فيه غربلة تبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وآماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا وشبك بين أصابعه وأخرج البزار عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أنتم في قوم مرجت عهودهم وإيمانهم وأماناتهم وصاروا هكذا وشبك بين أصابعه. وأخرج الطبراني عن سهل بن سعد الساعدي قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال كيف ترون إذا أخرتم في زمان حثالة من الناس قد مرجت عهودهم ونذورهم فاشتبكوا فكانوا هكذا وشبك بين أصابعه قالوا الله ورسوله أعلم قال تأخذون ما تعرفون وتدعون ما تنكرون ويقبل أحدكم على خاصة نفسه ويذر أمر العامة. واخرج الطبراني عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أنت إذا كنت في حثالة من الناس واختلفوا حتى يكونوا هكذا وشبك بين أصابعه قال الله ورسوله أعلم قال خذ ما تعرف ودع ما تنكر. وأخرج الشافعي وأحمد وأبو داود والنسائي بسند صحيح على شرط مسلم عن جبير بن مطعم قال لما كان يوم خيبر وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربي في بني هاشم وبني المطلب وترك بني نوفل وبني عبد شمس فانطلقت أنا وعثمان بن عفان حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم للموضع الذي وضعك الله به منهم فما بال إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وقرابتنا واحدة فقال النبي صلى الله عليه وسلم أنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام وإنما نحن وهم شيء واحد وشبك بين أصابعه. واخرج البيهقي في الزهد عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر كيف أنت إذا كنت في حثالة وشبك بين أصابعه قلت يا رسول الله ما تأمرني قال أصبر اصبر اصبر خالقوا الناس بأخلاقهم وخالفوهم في أعمالهم. وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن العبد الكافر يقول له القبر لا مرحبا ولا أهلا ثم يلتئم عليه حتى تلتقي أضلاعه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصابع يديه فشبكها. وأخرج مسلم وأبو داود عن جابر في حديث الحج قال قام سراقة بن جعشم فقال يا رسول الله ألعامنا هذا أم لا بد فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه في الأخرى وقال دخلت العمرة في الحج مرتين. واخرج ابن عساكر عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المؤمنين أعلم قلت الله ورسوله أعلم قال إذا اختلفوا وشبك بين أصابعه أبصرهم بالحق وإن كان في عمليه تقصير وإن كان يزحف زحفا.
ذكر الحديث المسلسل بالتشبيك أخبرني شيخنا الإمام تقي الدين الشمني بقراءتي عليه والجلال أبو المعالي القمصي وأبو العباس أحمد بن الجمال عبد الله بن علي الكناني سماعا عليهما بالقاهرة وناصر الدين أبو الفرج بن الإمام زين الدين أبي بكر المراغي بقراءتي عليه بمكة المشرفة والحافظ تقي الدين أبو الفضل بن فهد الهاشمي سماعا عليه بمنى وشبك كل منهم بيدي قال الأول والثاني والثالث أنا الجمال عبد الله بن علي الحنبلي وشبك بيد كل منا قال أنا أبو الحسن علي بن أحمد العرضي وشبك بيدي وقال الرابع أنا الشيخ شمس الدين محمد بن محمد الجزري وشبك بيدي قال أنا أبو حفص عمر ابن حسن المزي وشبك بيدي قال هو والعرضي أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن البخاري وشبك بيد كل منا أنا عمر بن سعيد الحلبي وشبك بيدي أنا أبو الفرح يحيى بن محمود الثقفي وشبك بيدي أنا الحافظ إسماعيل بن محمد التيمي وشبك بيدي أنا الإمام أبو محمد الحسن بن أحمد السمرقندي وشبك بيدي أنا أبو العباس جعفر بن محمد المستغفري وشبك بيدي أنا أبو بكر أحمد بن عبد العزيز المكي وشبك بيدي أنا أبو الحسين محمد بن طالب وشبك بيدي أنا أبو عمر عبد العزيز ابن الحسن بن بكر بن عبد الله بن الشرود الصنعاني وشبك بيدي قال شبك بيدي أبي ح وقال الخامس أنا القاضي جمال الدين بن ظهيرة وشبك بيدي أنا البهاء عبد الله ابن محمد المكي وشبك بيدي أنا الرضى الطبري وشبك بيدي أنا أبو الحسن بن بنت الجميزي وشبك بيدي أنا الشرف بن أبي عصرون وشبك بيدي أنا القاضي أبو عبد الله بن نصر وشبك بيدي حدثنا أبو بكر الطريثيثي وشبك بيدي ثنا علي ابن أبي نصر وشبك بيدي حدثنا محمد بن علي بن هاشم وشبك بيدي حدثنا عبيد ابن إبراهيم الصنعاني وشبك بيدي ثنا بكر بن الشرود وشبك بيدي وقال شبك بيدي ابن أبي يحيى وقال ابن أبي يحيى شبك بيدي صفوان بن سليم وقال صفوان شبك بيدي أيوب بن مالك الأنصاري وقال أيوب شبك بيدي عبد الله بن رافع وقال عبد الله بن رافع شبك بيدي أبو هريرة وقال أبو هريرة شبك بيدي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم وقال خلق الله الأرض يوم السبت والجبال يوم الأحد والشجر يوم الاثنين والمكروه يوم الثلاثاء والنور يوم الأربعاء والدواب يوم الخميس وآدم يوم الجمعة. مسألة: ماذا يقول إمام العصر مجتهد * قد فاق سالفه في العجم والعرب فيما روى عن رسول الله سيدنا * في يوم بدر عقيب النصر والنصب بأنه قال للكفار حين رموا * ضمن القليب قضوا للنار واللهب أهل القليب وجدنا وعد خالقنا * حقا وفزنا بنيل القصد والارب فهل وجدتم حقيقا وعد ربكم * وبعض اصحابه قد مال للعجب وقال كلمت خير الخلق من مضر * موتى خلوا عن سماع الصدق والكذب وأن أحمد خير الخلق قال له * منكم لأسمع في بعض الكتب وإن تقولوا روى في قول خالقنا * في محكم الذكر للمبعوث خير نبي لا يسمع الميت ماذا القول فيه وهل * معارض للذي قلناه في الرتب لا زلت ترشد عبدا ضل في حلك * بواضح الفرق خالي الشك والريب ونلت أعلى مقام في النعيم * مهنئا بسرور غير مقتضب الجواب: الحمد لله حمدا دائم الحقب * ثم الصلاة على المبعوث خير نبي سماع موتى كلام الخلق معتقد * جاءت به عندنا الآثار في الكتب وآية النفي معناها سماع هدى * لا يقبلون ولا يصغوا إلى أدب
شد الأثواب في سد الأبواب بسم الله الرحمن الرحيم {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى. روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خير فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر، وفي لفظ لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر أخرجه ابن عساكر وفي لفظ ثم هبط عن المنبر فما رؤى عليه حتى الساعة- أخرجه أحمد والدارمي هذا حديث متواتر كما سأشير إلى طرقه قال النووي في شرح مسلم فيه خصصية لأبي بكر رضي الله عنه وقال ابن شاهين في السنة تفرد أبو بكر رضي الله عنه بهذه الفضيلة. وللأمر بسد الأبواب في المسجد النبوي طرق كثيرة تبلغ درجة التواتر فأخرج البخاري والنسائي عن ابن عباس قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه في خرقة فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال إنه ليس أحد أمن على من نفسه وماله من أبي بكر ولو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن خلة الإسلام أفضل سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر. وأخرج ابن سعد من طريق الزهري أخبرني أيوب بن كسير الأنصاري عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فاستوى على المنبر فتشهد فلما قضى تشهده قال إن عبدا من عباد الله خير بين الدنيا وبين ما عند ربه فاختار ما عند ربه ففطن لها أبو بكر الصديق أول الناس فعرف إنما يريد النبي صلى الله عليه وسلم نفسه فبكى أبو بكر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على رسلك يا أبا بكر سدو هذه الأبواب الشوارع في المسجد إلا باب أبي بكر فإني لا أعلم امرأ أفضل عندي يدا في الصحابة من أبي بكر. وأخرج الطبراني بسند حسن عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صبوا على من سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم فخرج عاصبا رأسه حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن عبدا من عباد الله خير بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله فلم يفهمها إلا أبو بكر فبكى فقال نفديك بآبائنا وأمهاتنا وابنائنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم على رسلك أفضل الناس عندي في الصحبة وذات اليد ابن قحافة انظروا هذه الأبواب الشوارع في المسجد فسدوها إلا ما كان من باب أبي بكر فإني رأيت عليه نورا. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند بسند رجاله ثقات عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر صاحبي ومؤنسي في الغار سدوا كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر. وأخرج أبو يعلى بسند رجاله ثقات عن بعض الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته انظروا هذه الأبواب الملاصقة في المسجد فسدوها إلا ما كان من بيت أبي بكر فإني لا أعلم أحدا كان افضل عندي في الصحبة منه. وأخرج البزار بسند حسن عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سدوا عني كل باب إلا باب أبي بكر. وأخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة قالت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب التي في المسجد إلا باب أبي بكر. وأخرج الدارمي في مسنده عن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه صبوا علي من سبع قرب من سبع آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم فصببنا عليه فخرج فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ألا إن عبدا من عباد الله قد خير بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله فبكى أبو بكر فقال على رسلك سدوا هذه الأبواب الشوارع إلى المسجد إلا باب أبي بكر فإني لا أعلم امرأ افضل عندي يدا في الصحبة من أبي بكر. وأخرج الطبراني بسند رجاله رجال الصحيح عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تؤذوني في صاحبي ولولا أن الله سماه صاحبا لاتخذته خليلا ألا فسدوا كل خوخة إلا خوخة ابن أبي قحافة. وأخرج ابن سعد في الطبقات وابن عدي في الكامل عن يحيى بن سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أعظم الناس على منا في الصحبة وذات يده أبو بكر فأغلقوا هذه الأبواب الشارعة كلها في المسجد إلا باب أبي بكر فقال ناس أغلق أبوابنا وترك باب خليله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغني الذي قلتم في باب أبي بكر وإني أرى على باب أبي بكر نورا وأرى على أبوابكم ظلمة- مرسل، وقد أخرجه أبو طاهر المخلص في فوائده وابن عدي في الكامل وابن عساكر في تاريخه موصولا من طريق يحيى بن سعيد عن أنس به وزاد فكانت الآخرة أعظم عليهم من الأولى قال ابن عدي لا أعلم وصله عن الليث غير عبد الله بن صالح ورواه غيره عن الليث عن يحيى بن سعيد بدون ذكر أنس. وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن أبي الأحوص حكيم بن عمير العنسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عند ما أمر به من سد البواب إلا باب أبي بكر وقال ليس منها باب إلا وعليه ظلمة إلا ما كان من باب أبي بكر فإن عليه نورا. وأخرج ابن سعد عن أبي الحويرث قال لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواب تسد إلا باب أبي بكر قال عمر يا رسول الله دعني أفتح كوة أنظر إليك حتى تخرج إلى الصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا. وأخرج ابن سعد عن أبي البداح بن عاصم بن عدي قال: قال العباس بن عبد المطلب يا رسول الله ما بالك فتحت أبواب رجال في المسجد وما بالك سددت أبواب رجال في المسجد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عباس ما فتحت عن أمري ولا سددت عن أمري. (فصل) وأخرج أحمد والنسائي والحاكم في المستدرك وصححه عن زيد بن أرقم قال: كان لنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبواب شارعة في المسجد فقال يوما سدوا هذه الأبواب إلا باب علي فتكلم أناس في ذلك فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وقال أما بعد فإني أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي فقال فيه قائلكم وإني والله ما سددت شيئا ولا فتحته ولكني أمرت بشيء فاتبعته. واخرج أحمد والنسائي وأبو يعلى والبزار الطبراني في الأوسط بسند حسن عن سعد بن أبي وقاص قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب الشارعة في المسجد وترك باب علي فقالوا يا رسول الله سددت أبوابنا كلها إلا باب علي قال ما أنا سددت أبوابكم ولكن الله سدها. وأخرج أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبواب المسجد فسدت إلا باب علي. وأخرج الطبراني عن ابن عباس نحوه وزاد فقال الناس في ذلك فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنما أنا عبد مأمور ما أمرت بشيء فعلت أن أتبع إلا ما يوحى إلي. وأخرج البزار عن علي بن أبي طالب قال أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر أن سد بابك قال سمعا وطاعة فسد بابه ثم أرسل إلى عمر ثم أرسل إلى العباس بمثل ذلك ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنا سددت ابوابكم. وفتحت باب علي ولكن الله فتح باب علي وسد أبوابكم. واخرج البزار عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق فمرهم فليسدوا أبوابهم فانطلقت فقلت لهم ففعلوا إلا حمزة فقلت يا رسول الله قد فعلوا إلا حمزة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قل لحمزة فليحول بابه فقلت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تحول بابك فحوله. وأخرج أحمد والنسائي عن ابن عباس قال سد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبواب المسجد غير باب علي وكان يدخل المسجد وهو جنب وهو طريقه ليس له طريق غيره. وأخرج الطبراني عن جابر بن سمرة قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب كلها غير باب علي فقال العباس يا رسول الله قدر ما أدخل أنا وحدي، وأخرج قال ما أمرت بشيء من ذلك فسدها كلها غير باب علي، وأخرج النسائي بسند صحيح عن ابن عمر أنه سئل عن علي فقال انظر إلى منزله من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه سد أبوابنا في المسجد واقر بابه. وأخرج أحمد من وجه آخر عن ابن عمر قال أعطى علي ثلاث خصال زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنته وولدت له وسد الأبواب إلا بابه في المسجد وأعطاه الراية يوم خيبر فهذه أكثر من عشرين حديثا في الأمر بسد الأبواب وبقيت أحاديث أخر تركتها كراهة الإطالة. (فصل) قال العلماء لا معارضة بين الأحاديث المذكورة في الفصل الأول من أنه سد الأبواب إلا باب أبي بكر وبين المذكورة في الفصل الثاني من أنه سد الأبواب إلا باب علي فإنهما قصتان إحداهما غير الأخرى فقصة علي كانت متقدمة وهي في سد الأبواب الشارعة وقد كان إذن لعلي أن يمر في المسجد وهو جنب وقصة أبي بكر متأخرة في مرض الوفاة في سد طاقاة كانوا يستقربون الدخول منها وهي الخوخ كذا جمع القاضي إسماعيل المالكي في أحكامه والكلاباذي في معانيه والطحاوي في مشكله وعبارة الكلاباذي لا تعارض بين قصة علي وقصة أبي بكر لأن باب أبي بكر كان من جملة خوخات يطلع منها إلى المسجد وأبواب البيوت خارجة من المسجد فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد تلك الخوخ فلم تبق تطلع منها إلى المسجد وتركت خوخة أبي بكر فقط. وأما باب علي فكان داخل المسجد يخرج منه ويدخل منه. وقال الحافظ ابن حجر قصة علي في سد الأبواب وأما سد الخوخ فالمراد به طاقات كانت في المسجد يستقربون الدخول منها فأمر النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته بسدها إلا خوخة أبي بكر، وفي ذلك إشارة إلى استخلاف أبي بكر لأنه يحتاج إلى المسجد كثيرا دون غيره انتهى. قلت ويدل على تقدم قصة على ذكر حمزة في قصته فإن حمزة قتل يوم أحد. (فصل) قد ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة بل المتواترة أنه صلى الله عليه وسلم منع من فتح باب شارع إلى مسجد ولم يأذن في ذلك لأحد ولا لعمه العباس ولا لأبي بكر إلا لعلي لمكان ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ومن فتح خوخة صغيرة أو طاقة أو كوة ولم يأذن في ذلك لأحد ولا لعمر إلا لأبي بكر خاصة لمكان الخلافة ولكونه أفضل الناس يدا عنده كما أشار إلى التعليل به في الأحاديث المبدأ بها وهذه خصصية لا يشاركه فيها غيره ولا يصح قياس أحد عليه إلى يوم القيامة فإن عمر استأذن في كوة فلم يؤذن له فمن ذا الذي يقاس عليه وقد منع عمر واستأذن العباس في فتح باب صغير بقدر ما يخرج منه وحده فلم يؤذن له وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذا الذي يباح له ذلك وقد منع منه عمر والعباس ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اسند ذلك إلى أمر الله به وأنه لم يسد ما سد ولم يفتح ما فتح إلا بأمره تعالى ثم إن ذلك كان في مرض الوفاة وفي آخر مجلس جلسه على المنبر وكان ذلك من جملة ما عهد به إلى أمته ومات عليه ولم ينسخه شيء وتقلد ذلك حملة الشريعة من أمته فوجب على من علمه أن يبينه عند الحاجة إليه ولا يكتمه فإن توهم متوهم أو زعم زاعم أن الأمر في ذلك منوط برأي الإمام زد عليه بان هذا حكم من الأحكام نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على منعه فلا رأى لأحد في إباحته بل لو وقف رجل من آحاد الناس مسجدا وشرط فيه شيئا اتبع شرطه فكيف بمسجد وقفه النبي صلى الله عليه وسلم ونص فيه على المنع من امر واسنده إلى الوحي وجعله من جملة عهده عند وفاته والرجوع إلى رأي الإمام إنما يكون في مساجد لا تعرض في شروط واقفيها لمنع ولا لغيره على ما في ذلك أيضا من توقف ونظر وان خطر ببال أحد أن يقول أن المسجد الشريف قد زالت معالمه وجدره ووسع زيادة على ما كان في عهده صلى الله عليه وسلم فلا يجديه هذا شيئا فإن حرمة المسجد وأحكامه الثابتة له باقية إلى يوم القيامة ولو اتسع وأزيلت جدره وأعيدت عادت على هذا الحكم من غير تغيير فإن الحكم المذكور منوط بالمسجد من حيث هو لا بذاك الجدار بعينه وقد بنى في زمن عمر ووسع في زمن عثمان وغيره في القرن الأول وبعده ولم يخرجوا عن هذا الحكم وإن قيل بجواز الفتح في الجدار الذي هو ملك الفاتح قلنا إن كان مع إعادة حائط المسجد الشريف كما كانت بحيث يسد الباب والشبابيك التي في الجدار فلا يستطرق منه ولا يطلع منها فلا كلام وإن كان مع إزالة حائط المسجد وبقاء الاستطراق والإطلاع فمعاذ الله فإن هذه ذريعة وحيلة يتوصل بها إلى مخالفة الأمر الشريف وإذا منع النبي صلى الله عليه وسلم عمر من فتح كوة ينظره منها حين يخرج إلى الصلاة فكيف يهدم الحائط جميعه، بل أزيد على هذا وأقول لو أعيد حائط المسجد وبنى خلفه جدار أطول منه وفتح في أعلاه كوة يطلع منها إلى المسجد فينبغي المنع من ذلك احتياطا للحديث وإن انضم إلى ذلك أن الشبابيك تصير معدة لمن يجلس فيها مرتفعا والقبر الشريف تحته فهذا أشد وأشد والواجب على كل متحر الاحتياط لدينه حيث علم أن هذا الحكم منصوص عليه من صاحب الشرع وأنه لا رأى لأحد فيه بعد نصه وإن حكم الحاكم بما يخالف النص ينقض وفتوى المفتي بما يعارض ترد والتوصل إلى خلافه بالحيل الفاسدة من باب قوله صلى الله عليه وسلم لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود تستحلوا محارم الله بأدنى الحيل. (فصل) اعلم أن أكثر مفتي عصرنا أفتوا بجواز فتح الباب والكوة والشباك من دار بنيت ملاصقة للمسجد الشريف وكان ذلك منهم استرواجا وعدم وقوف على مجموع الأحاديث الواردة في ذلك ثم روجع كل منهم في مستنده فيما أفتى به فابدوا شبها كلها مردودة ولولا جناب النبي صلى الله عليه وسلم وعظمته الراسخة في القلب لم أتكلم في شيء من ذلك وكنت إلى السكوت أميل لكن لا أرى السكوت يسعني في ذلك فإن هذا عهد عهده النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاته فوجب على كل من علمه أن يبينه ولا يراعي فيه صديقا ولا حبيبا ولا بعيدا ولا قريبا وأنا أذكر شبه المفتين وأردها واحدة واحدة: فمنهم من قال لا نقل في هذه المسألة لأهل مذهبنا ونقول بالجواز استحسانا حيث لا ضرر وجواب هذا أنه لا استحسان مع النصوص النبوية، ومنهم من قال بالقياس على سائر المساجد حيث رأى الناظر ذلك، وجواب هذا أن النص منع القياس ودلت الأحاديث على أن المسجد النبوي انفرد بهذه الخصوصية على سائر المساجد، ومنهم من قال الأمر في ذلك منوط برأي الإمام. وجواب هذا أنه لا رأي لأحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل لأحد من الأئمة أن يغير من الأمور المنصوصة في الشريعة شيئا برأيه، ومنهم من قال الحديث الوارد في ذلك مخصوص بزمنه عليه السلام وهذا خطأ من وجوه: أحدها أنه لا دليل على التخصيص وإنما يصار إلى تخصيص النصوص بدليل، ثانيها أن القصة أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم في مرض وفاته ولم يعش بعدها إلا دون عشرة أيام فدل على أنه أمر به شرعا مستمرا إلى يوم القيامة، ثالثها أنه لو كان مخصوصا بزمن لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يبينه وإلا لكان تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة لاسيما وهي آخر جلسة جلسها للناس، رابعها أن الصحابة استمروا إلى أن انقرضوا وهم باقون على هذا الحكم وهذا يدل على أنهم فهموه شرعا مؤبدا، خامسها يقال لهذا الذي ادعى التخصيص ما وجه منع الصحابة في زمنه والأذن لمن جاء بعدهم والصحابة أشرف وأجل وأحق بكل خير وهل يتخيل متخيل أن يرخص لأهل القرن الأرذل ما منع أشرف الأمة وخيارهم معاذ الله. ومنهم من قال المنع مخصوص بجدار النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هدم وأعيد غيره فإن المعاد ملك للمعيد فيفتح فيه ما شاء ولا يصير وقفا حتى يوقفه، وهذا الكلام مردود بوجوه: الأول أن سبب هذا القول فهم أن الحكم متعلق بالجدار وليس كذلك بل الحكم متعلق بالمسجد وقصد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يستطرق إلى مسجده من باب في دار تلاصقه ولا يطلع إليه من كوة في دار تلاصقه فسواء في ذلك بقي الجدار الذي كان في عهده أو أزيل وأعيد غيره فإن المعاد يقوم مقام الجدار الأول في هذا الحكم، الثاني: أن ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية كما تقرر في الأصول وقد رتب صلى الله عليه وسلم الحكم هنا على الوصف حيث قال انظروا هذه الأبواب الشوارع في المسجد فسدوها، وفي لفظ الشوارع إلى المسجد فعلق الحكم بالشوارع فدل على أن العلة في سدها كونها شارعة إلى المسجد أي طريقا إليه من دار فسد كل باب يشرع إلى المسجد من دار سواء فتح في الجدار النبوي أم في الجدار الذي أعيد مكانه أم في جدار صاحب الدار، الثالث: إن الجدار النبوي أزيل في عهد عمر وعثمان وبنى غيره وأبقى الصحابة هذا الحكم فدل على أنهم فهموا من الأمر الشريف تعلق ذلك بالمسجد لا بالجدار وإلا لكانوا يفتحون لهم أبوابا وكوات ويحتجون بان الجدار النبوي أزيل وهذا الجدار ملك عمر أو عثمان وحاشاهم من ذلك وهم أتقى لله وأورع وأشد خشية، وانظر إلى قول عمر رضي الله عنه لولا أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ينبغي أن يزاد في مسجدنا هذا ما زدت- أخرجه أحمد وأبو يعلى والبزار في مسانديهم فانظر إلى هذا التوقف من أحداث شيء في المسجد النبوي إلا بنص من صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم، الرابع: أن دعوى أن الجدار المعاد ملك للمعيد يقال عليه أولا هدم الجدار الذي قبله لا يخلو أما أن يكون لمصلحة أولا فإن كان لغير مصلحة فاعادته واجبة على الهادم فإذا أعاده كان بدل متلف لا مسلكا له وأن كان لمصلحة فاعادته واجبة من مال وقف المسجد الشريف أو من مال بيت المال فإذا أعيد منهما كان وقفا كما كان لا ملكا وأن أعاده الإمام أو غيره من مال نفسه على نية أعادته للمسجد فالأمر كذلك أيضا أو على نية التملك فهذا لا يجوز وكيف يبنى على نية التملك في أرض المسجد الشريف، الخامس: أن هذا الجدار المعاد لا يخلو إما أن يمحض جدار للمسجد الشريف أو يجعل جدارا للدار التي تبنى ملاصقة ويكتفي به عن إعادة جدار المسجد أو يجعل جدارا لها ويعاد جدار المسجد كما كان فإن كان الثالث فهو المطلوب وإن كان الثاني لم يجز إهمال إعادة جدار المسجد بل يجب على الإمام الأعظم أو الحاكم الشافعي ناظر الحرم الشريف إعادة جدار المسجد ولا يتركه مهدوما ويزيد ذلك تحريما أن يبنى على أرض المسجد ويجعل جدارا للدار فهذا فيه أخذ قطعة من المسجد وإدخالها في الدار وهو ممنوع وإن كان الأول وجب فصل الدار منه ولم يجز أن ينتفع بجدار المسجد في الدار، السادس: أن قوله صلى الله عليه وسلم سدا الأبواب اللاصقة في المسجد أي كونه متصلا به فيشمل ذلك كل باب لصق به من أمر جدار كان، السابع: أن الحديث الآتي وهو قوله صلى الله عليه وسلم لو بنى مسجدي هذا إلى صنعاء كان مسجدي دل على استواء القدر الذي كان في عهده مسجدا والذي يحدث بعده في الحكم فكذلك يستوي الجدار الذي كان في عهده والذي يحدث بعده في الحكم، الثامن: لو قدر والعياذ بالله احتياج بعض حيطان الكعبة إلى هدم وإصلاح فهدمها الإمام وأعادها فهل يقول قائل إن الحائط الذي أعاده ملك له يفتح فيه ما شاء ويتصرف فيه كيف شاء ولا يخرج عن ملكه حتى يوقفه فإن قيل بذلك ففي غاية السقوط وإن لم يقل به فحائط المسجد النبوي كذلك إذ الحرمان الشريفان مستويان في غالب الأحكام وقياس الحرم النبوي على الحرم المكي أشبه من قياسه على سائر المساجد لما له من الخصوصيات لا سيما مع ما ورد فيه من النصوص في هذا الحكم بعينه، التاسع: قد ذكر الأقفهسي أن الملك الظاهر بيبرس هو الذي أحدث المقصورة حول الحجرة الشريفة سنة ثمان وستين وستمائة وأنه فعل ذلك ظنا منه أنه زيادة تعظيم وحرمة للحجرة ثم أنكر الأقفهسي هذا الفعل لكونه حجر طائفة من الروضة الشريفة عن صلاة الناس فيها وصار هذا القدر مأوى النساء بأطفالهن أيام الموسم ونقل عن قاضي القضاة عز الدين بن جماعة أن ذلك ذكر للملك الظاهر فسكت وما أجاب ثم قال وهذا من أهم ما ينظر فيه انتهى. فانظر إلى توقف العلماء في هذا القدر مع أنه لم يرد فيه نص بمنع بل قصد التعظيم فيه والحرمة ظاهر فكيف بأحداث باب يشرع أو شبابيك يطلع منها أو يجلس فيها الجالس مرتفعا مع مصادمة ذلك للنصوص وإن لم يظهر لمن قال بذلك اطراد الحرمة في الجدار المعاد فلا أقل من التوقف والورع في مثل هذا المحل الخطر. العاشر: هل يظن ظان أو يتوهم متوهم أن النبي صلى الله عليه وسلم خص المنع بالجدار بخلا بجداره أو حرصا عليه أو خشية أن يضعف الجدار؟ كلا والله بل إنما أراد بذلك منع الاستطراق والإطلاع إلى مسجده مع قطع النظر عن الجدار بخصوصه حسبما أمره الله وأوحى إليه. الحادي عشر هل كان المنع لعمر وغيره من حيث الجدار حتى لو فتحوا من جدارهم حيث لا جدار للمسجد لجاز لهم ذلك الأحاديث تقتضي خلافه كما يفهمها من مر عليها. الثاني عشر: هذا المنع قد أسنده النبي صلى الله عليه وسلم إلى الوحي ولم يبين علته فإن أدرك له علة وهو تعظيم المسجد استمر ذلك إلى يوم القيامة في كل جدار وإن لم يدرك علة استمر أيضا فإن التخصيص إذا لم ينص يكون عن قياس وما لا تدرك علته لا يدخله القياس كسائر الأمور التوقيفية والتعبدية وإن قال قائل العلة اختصاصه بالجدار قلنا ليس هذا بعلة وإن قال العلة خوف أضعافه قلنا هي علة ساقطة لأن الصحابة كانوا يلتزمون بناءه كلما وهى فدل على أنه إنما يعلل بتعظيم المسجد فيعم أو غير معلل بل هو حكم أمر الله نبيه أن يأمر به ولم يطلع على علته. الثالث عشر: قد وقع في الأحاديث التصريح بأن هذا عهد عهد به صلى الله عليه وسلم عند وفاته وقد علم صلى الله عليه وسلم ما هو كائن في أمته إلى أن تقوم الساعة وعلم من جملة ذلك أنه يقع في خلافة عمر إزالة تلك الجدر الموجودة وذلك بعد وفاته بسنين قليلة فلو كان الحكم الذي عهد به مختصا بتلك الجدر لبينه لعلمه بزوالها عن قريب، الرابع عشر: قد ورد عن عائشة أنها كانت تمنع اهل الدور المطيفة بالمسجد من دق الوتد في الحائط وذلك بعد إزالة الجدر التي كانت في عهده صلى الله عليه وسلم فدل على أن الجدر التي أعيدت لها حكم الجدر الأول، الخامس عشر: قوله صلى الله عليه وسلم لا يبقين في المسجد باب إلا سد يدل على أن الحكم معلق بالمسجد ولم يقل لا يبقين في الجدار. السادس عشر: ذكر عمر بن شبة في أخبار المدينة أن دار أبي بكر التي أبقيت فيها الخوخة باعها أبو بكر في أمر احتاج إليه فاشترتها حفصة أم المؤمنين بأربعة آلاف فلما وسع المسجد في زمن عثمان طلب منها أن تبيعها ليوسع بها المسجد فامتنعت وقالت كيف بطريقي في المسجد فهذا يدل على أن الصحابة فهموا من الأمر الشريف الاختصاص بالمسجد لا بالجدار امتناع فتح الأبواب ونحوها ولو بعد توسعة المسجد وهدم الجدار النبوي. السابع عشر: أن ابن الصلاح سئل عن رباط موقوف على الصوفية اقتضت المصلحة أن يفتح فيه باب جديد مضافا إلى بابه القديم فأجاب بالجواز بشروط واستدل بفعل عثمان رضي الله عنه حيث فتح في المسجد النبوي أبوابا زيادة على ما كان وهذا من ابن الصلاح دليل على أنه فهم أن الجدار المعاد له حكم الجدار الأول لأن عثمان رضي الله عنه إنما فتح في جداره الذي بناه هو بعد إزالة الجدر النبوية والجدر العمرية فلو كان الحكم مختلفا لم ينهض لابن الصلاح الاستدلال بذلك لأنه يقال له في الفرق جدار الرباط جدار الواقف فلا يفتح فيه والجدار الذي فتح فيه عثمان ليس جدار الواقف بل هو جداره وملكه فيبطل الاستدلال. وقد نقل السبكي كلام ابن الصلاح هذا في فتاويه وقال إنه صحيح فهو تقرير لهذا الفهم، الثامن عشر: صرح العبادي والشيخ أبو محمد الجويني في كتاب موقف الإمام والمأموم بأنه لو التمس من الناس آلة ليبنى بها مسجدا فأعطوه الالة فبنى بها فإنه يصير مسجدا بنفس البناء ولا يحتاج إلى إنشاء وقف كما لو أحيا مواتا بنية جعلها مسجدا فإنه يصير مسجدا بالنية ولا يحتاج إلى وقف نقله الزركشي في التكملة عن الجويني وابن العماد في أحكام المساجد عن العبادي وهذا يدفع القول بأن حائط المسجد الشريف إذا أعادها الإمام يكون ملكا له ويحتاج إلى إنشاء وقف لأنه ما نوى بعمارتها إلا إعادة حائط المسجد والقرائن على هذه النية متضافرة منها كون البناء على أرض المسجد، التاسع عشر: قال الماوردي إذا بنى مسجدا في موات ونوى به المسجد صار به مسجدا ويغنى الفعل مع النية عن القول قال ويزول ملكه عن الآلة بعد استقرارها في مواضعها من البناء وهي قبل الاستقرار باقية على ملكه إلا أن يقول انها للمسجد فيخرج عن ملكه نقله الزركشي في التكملة وصدر هذا الكلام والاستثناء الثاني في آخره ببطلان القول بأن حائط المسجد الشريف إذا أعادها الإمام صارت ملكه ويحتاج إلى وقف. الحادي والعشرون: لم ينقل عن عثمان رضي الله عنه أنه حين وسع المسجد صرح بوقف ولا ذكر لفظا ذكره الزركشي في التكملة. قلت: وكذلك لم ينقل عن عمر بن عبد العزيز ولا عن المهدي حين وسعاه ولا عن أحد من الملوك الذين بنوه بعد الحريق الأول أنهم صرحوا بوقف ولا ذكروا لفظا ولا نبههم أحد من علماء عصرهم مع كثرتهم على أنه محتاج إلى ذلك فدل على أنه لا يحتاج إليه لأن البناء المحدود تابع للمسجد القديم. الثاني والعشرون: قال الزركشي أورد بعضهم على قول الأصحاب لو بنى مسجدا وأذن في الصلاة فيه لم يصر مسجدا أنه صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه حين بنى مسجده تلفظ بوقفه. قلت وقد يجاب عنه بأنه صلى الله عليه وسلم بناه بأمر الله تعالى وبالوحي فأغنى ذلك عن التصريح بوقفه فإن قوة الأحاديث والأخبار تعطي ذلك فيكون ذلك من خصائص مسجده وتستمر هذه الخصوصية فيه إلى يوم القيامة فلا يحتاج كل من جدده إلى تصريح بوقفه. الثالث والعشرون: قال في الروضة وأصلها نقلا عن الإمام لا شك في انقطاع تصرف الإمام عن بقاع المسجد فإن المساجد لله انتهى. وهذا الكلام صريح في منعه من أن يبنى حائطا على بقعة المسجد ويضم إليها زيادة في البناء موصولة بها متملكا ذلك ويتصرف في المجموع بفتح الشبابيك أو غير ذلك. الرابع والعشرون: هل يجوز للإمام أو غيره إعادة حائط المسجد من مال نفسه على نية التملك والتصرف بما شاء مع وجود سهم المصالح الذي يجب عليه بناء المساجد منه وإعادتها كما كانت هذا محل نظر وما أظن فقيها يسمح به إلا بشرط عدم نية التملك والتصرف وكذا مع وجود ريع متحصل من وقف المسجد. الخامس والعشرون: قد صرح العلماء بأن ملك النبي صلى الله عليه وسلم ثابت بعد موته ثبوت الحياة له ولهذا أنفق على زوجاته بعد وفاته من سهمه الذي كان يستحقه فكذلك يبنى منه ما تهدم من مسجده ويعاد على وضعه وشرطه من غير تعد ولا تصرف. السادس والعشرون: لا شك في أن جميع ما بأيدي الملوك الآن هو مال بيت المال وليس في أيديهم شيء يثبت أنه ملكهم بالطريق الشرعي وأي جهة فرضت فعنها الجواب الشافي فالحائط المعاد لم يبين بمال نفسه فلا ملك له فيه. السابع والعشرون: قد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم من حيث المعنى على قريش حيث تصرفوا في الكعبة لما بنوها ولم يعيدوها على بناء إبراهيم وسدوا أحد بابيها وغيروا موضع الآخر وهم بهدمها وإعادة البابين كما كانا لولا حدثان عهدهم بالجاهلية فما منعه من ذلك إلا مصلحة التآلف على الإسلام وخوف ارتدادهم إلى الكفر وهذا يدل على أن البناء المعادلة حكم ما كان قبل الهدم وإلا كان يقال أن قريشا إنما تصرفت في بنائها الذي بنته من مالها وأن بناء إبراهيم قد ذهبت عينه وزال رسمه ولهذا قال السبكي فيما سيأتي نقله عنه أن همّ النبي صلى الله عليه وسلم بفتح الباب الثاني في الكعبة رد لما كانت عليه أولا ولا فرق بين ما بناه إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالوحي وبين ما بناه سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم بالوحي وإنما قد يفرق بين ذلك وبين سائر المساجد التي بناها آحاد الناس إن سلم الفرق وقد وقع في كلام ابن الصلاح قياس رباط الصوفية في إحداث باب فيه على الكعبة. الثامن والعشرون: صرح ابن العماد في أحكام المساجد بأنه لو كانت مساجد متلاصقة فأراد الناظر رفع الجدار التي بينها وجعلها مسجدا واحدا لم يجز له ذلك لأنه يؤدي إلى تغيير معالم الوقف وكذلك لا يجوز ترك جدار المسجد النبوي والاقتصار على جدار واحد يجعل للمدرسة التي تلاصقه مكتفيا به عن جدار المسجد على جهة الاختصاص بالمدرسة أو الاشتراك بينها وبين المسجد بل لابد من جدار للمسجد متميز منفصل عن جدار غيره يختص به وتجري عليه أحكامه. التاسع والعشرون: هذه المدرسة إن لم تكن مسجدا كما هو المعروف في المدارس والربط فلا يجوز الاشتراك بينها وبين المسجد في الجدار إذ لا يتميز حينئذ جدار المسجد الذي حكمه حكم المسجد من جدار المدرسة الذي لا يعطى حكم المسجد من وجوه: منها تحريم مكث الجنب وصحة الاقتداء والاعتكاف وتحريم البصاق وحمل الجذوع وإعادته إذا هدم من مال الوقف أو مال بيت المال إلى غير ذلك وإن كانت مسجدا فينظر إلى ما أورده المفسرون من الأحاديث والآثار في آخر سورة براءة ومنهم من قال المنع مخصوص بالقدر الذي كان في عهده صلى الله عليه وسلم فأما الزيادة التي وسع بها فلا وهذا مردود بنص العلماء على أن المسجدين ولو وسعا معا لم تختلف أحكامهما الثابتة لهما وقد وسع في زمن عثمان وغيره واستمر الصحابة على إبقاء الحكم المذكور وروى الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن ابي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو بنى مسجدي هذا إلى صنعاء كان مسجدي، وروى أيضا عن عمر بن الخطاب قال لو مد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة لكان منه فهذا الحديث والأثر تصريح بأن أحكام المسجد ثابتة له ولو هدم عما كان في عهده صلى الله عليه وسلم وأعيد ولو وسع وامتد وأيضا فالتوسعة لا تمنع استمرار الحكم لأنه يلزم من الاستطراق إلى القدر المزيد الاستطراق إلى بقية المسجد وهو القدر الذي كان في عهده فالمحذور باق. (فصل) وقد تعرض جماعة من متأخري أصحابنا للمسألة وعموها في سائر المساجد فسئل الشيخ تقي الدين عن باب فتح في سور المسجد هل بعد فتحه يجوز الاستطراق منه إلى المسجد مثل الأبواب التي في المسجد الحرام ومثل شباك الطيبرسية المجاورة للجامع الأزهر أم لا يجوز ذلك ويفرق بين أن يكون الجدار عريضا بحيث يحتاج إلى وضع القدم في وسطه أم لا فأجاب بأن هذه المسألة يتكلم فيها في موضعين أحدهما في جواز فتح الباب المذكور الذي يظهر على قواعد مذهب الشافعي أنه لا يجوز ولا يكاد الشافعية يرتابون في عدم إيجاز ذلك فإنهم يحترزون عن تغيير الوقف جدا. ولما فتح شباك الطيبرسية في جدار الجامع الأزهر عظم ذلك علي ورأيته من المنكرات ولما فتح الشيخ علاء الدين في بيته في المدرسة الشريفية بالقاهرة شباك لطيفا لأجل الضوء خشي الإنكار فقال لي إنه استند إلى كلام لابن الرفعة في المطلب شرح الوسيط. ورأيت أنا ذلك الكلام عند قول الغزالي في تعليل الوجه القائل بأنه لا يجوز تزويج الجارية الموقوفة لأنه ينقص الوقف ويخالف غرض الواقف فقال ابن الرفعة قوله ويخالف غرض الواقف يفهم أن أغراض الواقفين وأن لم يصرح بها ينظر إليها ولهذا كان شيخنا عماد الدين يقول إذا اقتضت المصلحة تغيير بناء الوقف في صورته لزيادة ريعه جاز ذلك وإن لم ينص عليه الواقف بلفظه لأن دلالة الحال شاهدة بأن ذلك لو ذكره الواقف حالة الوقف لأثبته في كتاب وقفه. قال ابن الرفعة وقلت ذلك لشيخ الإسلام في وقته وقاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد وأن قاضي القضاة تاج الدين وولده قاضي القضاة صدر الدين عملا بذلك في بعض الوقف من تغيير باب من مكان إلى مكان فقال لي في جواب ذلك كان والدي يعني الشيخ مجد الدين يقول كان شيخي المقدسي يقول بذلك وأكثر منه قال الشيخ تقي الدين وناهيك بالمقدسي أو كما قال فأشعر ذلك كله برضاه فاغتبط ابن الرفعة بما استشعره من رضى الشيخ تقي الدين وكان قدوة زمانه في العلم والدين وكان بحيث يكتفي منه بأدنى من ذلك والمقدسي شيخ والده مالكي فقيه محدث قدوة أيضا. وقد قلت في شرح المنهاج أن الذي أراه في ذلك الجواز بشرطين أحدهما أن يكون يسيرا لا يغير مسمى الوقف الثاني أن لا يزيل شيئا من عينه بأن ينقل بعضه من جانب إلى جانب فإن اقتضى زوال شيء من العين لم يجز فإذا وجد هذان الشرطان فلا بأس إذا كان في ذلك مصلحة للوقف فهذا شرط ثالث لا بد منه وهو مقصودي في شرح المنهاج وإن لم أصرح به، وفتح شباك الطيبرسية لا مصلحة لجامع الأزهر فيه فلا يجوز وكذلك فتح أبواب للحرم لا حاجة للحرم بها وإنما هي لمصلحة ساكنيها فهذا لا يجوز على مقتضى قواعد مذهب الإمام الشافعي ولا على مذهب غيره إذا لم يكن فيه مصلحة. وفي فتاوى ابن الصلاح: رباط موقوف على الصوفية اقتضت المصلحة لأهله أن يفتح فيه باب جديد مضافا إلى بابه القديم فهل يجوز للناظر ذلك وليس في شرط الواقف تعرض لذلك بمنع ولا إطلاق. أجاب أن استلزم ذلك تغيير شيء من الموقوف عن هيئة كان عليها عند الوقف إلى هيئة أخرى غير مجانسة لها مثل أن يفتح الباب إلى أرض وقفت بستانا مثلا فيستلزم تغيير محل الاستطراق منه وجعل ذلك القدر طريقا بعد أن كان أرض غرس وزراعة فهذا وشبهه غير جائز وأن لم يستلزم شيئا من ذلك ولم يكن إلا مجرد فتح باب جديد فهذا لا بأس به عند اقتضاء المصلحة له، وفي الحديث والأثر الصحيحين ما يدل على تسويغه الحديث " لولا حدثان قومك بالكفر لجعلت للكعبة بابين" ولا فرق والأثر فعل عثمان بن عفان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إجماع. قلت الذي قاله صحيح لكن في استدلاله بالكعبة نظر لأن البابين كانا في زمن إبراهيم ففتح الثاني رد لما كانت عليه في الأول، وأما فعل عثمان فكان لمصلحة عامة المسلمين فلا يلزم طرده في كل وقت ألا ترى أن ذلك هدم بالكلية ولو جئنا نفعل ذلك في كل عصر في كل الأوقات لم يجز. وقال ابن الصلاح لابد أن يصان ذلك عن هدم شيء لأجل الفتح على وجه لا يستعمل في موضع آخر من المكان الموقوف فإن ذلك من الموقوف فلا يجوز إبطال الوقف فيه ببيع وغيره فإذا كان الفتح بانتزاع حجارته بأن تجعل في طرف آخر من المكان فلا بأس- هذا كلام ابن الصلاح. ويظهر من هذا أنه يجوز الفتح بهذه الشروط في باب جديد في الحرم إذا ضاقت أبوابه من ازدحام الحجيج ونحوهم فيفتح فيه باب آخر وأكثر ليتسعوا فهذا هو الذي نقول أنه جائز بالشرط المذكور أما غيره لغرض خاص من جيرانه أو غيرهم فلا. الموضع الثاني وهو جواز الاستطراق فيه بعد الفتح ولا نقل عندي في مثله والذي أقوله أنه حيث جاز الفتح جاز الاستطراق ولا إشكال وحيث لم يجز الفتح فقد خطر لي في نظري في ذلك في باب الكعبة الذي هو اليوم وهو الذي أحدثته قريش بدلا عن الباب التحتاني الذي كان في زمن إبراهيم عليه السلام وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم منه وخطر لي في الجواب عنه أن دخول الكعبة مشروع سنة وربما كان واجبا فلا يترك لفعل قريش ولم يكن تغيير ذلك الباب ممكنا لما قال صلى الله عليه وسلم لولا حدثان عهد قومك فاجتمع في باب الكعبة أمران أحدهما جواز إبقائه في ذلك الوقت والثاني الحاجة إلى دخول الكعبة إقامة للشرع المسنون والواجب وهكذا الآن فإن الإجماع انعقد على جواز تغييرهما معا ويكفي تقرير النبي صلى الله عليه وسلم دليلا لجواز إبقاء ذلك الباب والدخول منه ردع يكون فتح على أي وجه كان وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم ودخوله منه شرع مستقل ويكون أيضا في أن الحجر من البيت وقد أفرد عنه ببناء لطيف فيه فتحتان شرقية وغربية في جرية متلاصقتان لجهة الكعبة والدخول فيه من إحدى الفتحتين أو من فوق جداره اللطيف ما أظن أحدا يمنع منه ولا أدري هل دخله النبي صلى الله عليه وسلم أولا ولكن جاء في الترمذي أنه قال لعائشة صلي فيه والمعنى الذي قدمناه من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم أيضا يكفي في مشروعية إبقائه والدخول فيه من تلك الفتحتين ومن التسور على جداره وكيف كان فإن دعت الحاجة إلى الدخول فيه الدخول منه كالدخول في الكعبة لاجتماع المعنيين وإن تدع الحاجة كان الجواز لأجل جواز الإبقاء للحديث المذكور وللتقرير. وأما الأبواب المفتحة للحرم من أماكن لأصحابها فلا حاجة للمسلمين ولا للحرم بها فلا يجوز فتحها ولا يجوز إبقاؤها ولا حاجة إلى الدخول إلى الحرم منها فلم يوجد فيها شيء من المعنيين اللذين في الكعبة فيظهر أن لا يجوز لأمرين أحدهما معنى فإن شيخنا ابن الرفعة لما زينت القاهرة في سنة اثنتين وسبعمائة زينة عظيمة أفتى بتحريم النظر إليها قال لأنها إنما تعمل لينظر إليها فهو العلة الغايية المطلوبة منها تحريم النظر إليها حمل على تركها وهكذا إذا تواطأ الناس على عدم الدخول منه كان ذلك داعيا إلى سده الواجب وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب وترك الواجب حرام بل أقول إن الدخول منه دعاية إلى الحرام ودوامه فيكون حراما، والثاني أن الوقف غير مملوك لنا وإنما جاز لنا التصرف فيه بإذن من الواقف شرطا أو عرفا على مقتضى الشرع فواقف الجامع والحرم وغيرهما من المساجد ونحوها وقفه على صفة ليس لنا أن نتصرف فيه إلا على تلك الصفة والدخول من ذلك المكان المفتوح لم يقتضه شرط الواقف فلا يكون مملوكا لنا وأيضا فمن ملك مكانا ملك تحته إلى تحت تخوم الأرض وفوقه إلى السماء والهواء الذي فوقه مملوك له فالداخل من الباب متصرف في هواء غيره بما لم يؤذن له فلا يجوز مع ملاحظة هذين المعنيين فلا فرق بين أن تكون العتبة عريضة بحيث يضع قدمه عليها أو لا نعم إن كانت عريضة يتأكد المنع للتصرف في الهواء والقرار، هذا هو الذي يترجح عندي في ذلك. ويحتمل أيضا أن يقال المنع إنما كان لوجود الجدار وليس بمقصود في نفسه فإذا زال الجدار بأي طريق كان فلا يمتنع دخول المكان كما لو انهدم بنفسه واعتبار ملك الهواء بحيث يقال ليس لهما العبور إذا انهدم بنفسه لا تقتضيه قواعد الفقه ولا العرف وهو مستنكر فالوجه أن يقال إنما يتخيل التحريم من جهة أنها إعانة على ظلم فإذا لم يكن إعانة على ظلم فهو جائز وذلك حيث لا يفيد الامتناع من الدخول وإنما يفيد إذا كان الممتنع مطاعا فيكون امتناعه سببا لانكار المنكر فيجب إذا لم يكن بهذه المثابة فلا منع لا سيما قد يتفق أن يكون الشخص الذي لا قدر له على التغيير ساكنا في جوار الحرم في مكان قد فتح منه باب كذلك وهو لا يقدر على سده فيحتمل جواز دخوله منه ويقوى ذلك إذا احتاج بأن يكون في الليل ونحوه وخاف على نفسه أو ما معه من الخروج فأنا نقطع في هذه الحالة بجواز دخوله قياسا على الكعبة للحاجة وأما السكن فيه فلا يمتنع- هذا كله كلام السبكي في فتاويه. وقال الزركشي في كتابه أحكام المساجد بوب البخاري في صحيحه باب الخوخة والممر في المسجد وأدخل فيه حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم خطب وقال لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر، وظاهر الخبر المنع وخصوصية الصديق بذلك دون غيره هذه عبارته، وأورد ابن العماد في كتابه أحكام المساجد كلام السبكي بحروفه ثم أورد على حديث الأمر بسد الأبواب إشكالا وهو غير وارد فقال يلزم على الحديث إشكال وهو أن هذه الأبواب يعني التي أمر بسدها أن كانت من أصل الوقف التي وضع المسجد عليها لزم عليه جواز تغيير معالم الوقف وخروجه عن الهيئة التي وضع عليها أو لا وإن كانت محدثة لزم عليه جواز فتح باب في جدار المسجد وكوة يدخل منها الضوء وغير ذلك مما تقتضيه مصلحة حتى يجوز لآحاد الرعية أن يفتح من داره المجاورة للمسجد بابا إلى المسجد في حائط المسجد وقد تقدم أنه ممنوع ويحتمل أن يقال يجوز ذلك للواقف دون غيره لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي وقف المسجد وفيه أشكال من جهة انتقال الوقف وزواله عن ملكه إلى الله تعالى هذه عبارته. قلت الأشكال ساقط فإن الفتح أولا كان بأمر من الله ووحي فكان جائزا ثم نسخ الله تعالى ذلك وأمر بالسد بوحي أيضا كما تقدم في الأحاديث فهو من قبيل الناسخ والمنسوخ من الأحكام الشرعية فلا إشكال وقد فهم من كلام السبكي السابق أنه لا يجوز الفتح إلا بثلاثة شروط أن يكون يسيرا لا يغير مسمى الوقف وأن لا يزيل شيئا من عينه وأن يكون في ذلك مصلحة للوقف أو لعامة المسلمين، ويزاد عليها شرط رابع من فتاوى ابن الصلاح وأن لا يكون في شرط الواقف نص على منعه فإذا اجتمعت هذه الشروط الأربعة جاز الفتح وإن فقد شرط منها لم يجز وقد فقد في مسجد المدينة شرطان الثالث والرابع فإنه لا مصلحة في ذلك للمسجد بل للمدرسة المجاورة للمسجد الحرام والرابع فأن الواقف وهو صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم نص على منعه وأسند ذلك إلى الوحي الشريف فوجب القول بالمنع ولو قيل بالجواز في بقية المساجد وقد بنى السلطان سقاية للشرب في رحبة الجامع الطولوني وفتح له شباكا في الجدار المحوط على الرحبة ليسهل شرب المارين منها وهذا الفتح جائز هنا لوجود المصلحة العامة وعدم نص من الواقف على منعه ولو أراد السلطان الآن الزيادة في عدة أبواب المسجد النبوي لجاز له ذلك بل يستحب لأمرين لأحدهما وجود المصلحة العامة والثاني الرد إلى ما كان عليه أولا فسيأتي أنه كان له في زمن عمر بن عبد العزيز عشرون بابا. (فائدة نختم بها الكتاب) قال النووي في شرح المهذب فرع عن خارجة بن زيد بن ثابت آخر فقهاء المدينة السبعة قال بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده سبعين ذراعا في ستين ذراعا أو يزيد قال أهل السير جعل عثمان بن عفان طول المسجد مائة وستين ذراعا وعرضه مائة وخمسين وجعل أبوابه ستة كما كانت في زمن عمر وزاده الوليد بن عبد الملك فجعل طوله مائتي ذراع وعرضه في مقدمه مائتين وفي مؤخره مائة وثمانين ثم زاد فيه المهدي مائة ذراع من جهة الشام فقط دون الجهات الثلاث هذا ما في شرح المهذب، وأخرج ابن سعد في الطبقات عن الزهري قال بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موضع المسجد وهو يومئذ يصلي فيه رجال من المسلمين وكان مربد السهل وسهيل غلامين يتيمين من الأنصار وكانا في حجر أبي أمامة لعبد بن زرارة فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا بل نهبه لك يا رسول الله فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ابتاعه منهما فابتاعه بعشرة دنانير وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل الذي في الحديقة وبالغرقد الذي فيه أن يقطع وأمر باللبن فضرب وكان في المربد قبور جاهلية فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنبشت وأمر العظام أن تغيب وكان في المربد ماء مستعمل فسيروه حتى ذهب وأسسوا المسجد فجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع وفي هذين الجانبين مثل ذلك فهو مربع ويقال كان اقل من المائة وجعلوا الأساس قريبا من ثلاثة أذرع على الأرض بالحجارة ثم بنوه باللبن وبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وجعل ينقل معهم الحجارة بنفسه ويقول اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجره وجعل يقول هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبرر بنا وأطهر وجعل له ثلاثة أبواب بابا في مؤخره وبابا يقال له باب الرحمة وهو الباب الذي يدعى باب عاتكة والباب الثالث الذي يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الباب الذي يلي آل عثمان وجعل طول الجدار بسطه وعنده الجذوع وسقفه جريدا فقيل له ألا تسقفه فقال عريش كعريش موسى خشيبات وتمام الشأن أعجل من ذلك وبنى بيوتا إلى جنبه باللبن وسقفها بجذوع النخل والجريد فلما فرغ من البناء بنى بعائشة في البيت الذي بابه شارع إلى المسجد وجعل سودة في البيت الآخر الذي يليه إلى الباب الذي يلي آل عثمان، وأخرج الزبير ابن بكار في أخبار المدينة عن مجمع بن يزيد قال بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد مرتين بناه حين قدم أقل من مائة في مائة فلما فتح الله عليه خيبر بناه وزاد فيه مثله في الدور وضرب الحجرات ما بينه وبين القبلة، وأخرج أيضا عن أنس قال بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما بناه بالجريد وإنما بناه باللبن بعد الهجرة بأربع سنين. وأخرج البخاري عن ابن عمر أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئا وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج وقال الأقفهسي في تاريخ المدينة قيل كان عرض الجدار في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لبنة ثم إن المسلمين لما كثروا بنوه لبنة ونصفا ثم قالوا يا رسول الله لو أمرت لزدنا فقال نعم فزادوا فيه وبنوا جداره لبنتين مختلفتين ولم يكن له سطح فشكوا الحر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقيم له سواري من جذوع ثم طرحت عليها العوارض والحصر والأدخر فأصابتهم الأمطار فجعل يكف عليهم فقالوا يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فطين فقال عريش كعريش موسى والأمر أعجل من ذلك. ولما زاد فيه عمر جعل طوله مائة وأربعين ذراعا وعرضه مائة وعشرين ذراعا وبدل أساطينه بأخر من جذوع النخل وسقفه بجريد وجعل طول السقف أحد عشر ذراعا وفرشه بالحصى ولما زاد فيه عثمان وذلك في ربيع الأول سنة تسع وعشرين جعل طوله مائة وستين ذراعا وعرضه مائة وخمسين ذراعا وجعل أبوابه ستة. ولما زاد فيه عمر بن عبد العزيز وذلك بأمر الوليد بن عبد الملك وكان عامله على المدينة جعل طوله ما تقدم عن شرح المهذب وجعل على كل ركن من أركانه الأربعة منارة للأذان وجعل له عشرين بابا وبنى على الحجرة الشريفة حائطا ولم يلصقه بجدار الحجرة ولا بالسقف وطوله مقدار نصف قامة بالآجر فلما حج سليمان بن عبد الملك هدم المنارة التي هي قبلي المسجد من الغرب لأنها كانت مطلة على دار مروان فأذن المؤذن فأطل على سليمان وهو في الدار فأمر بهدمها ثم زاد فيه المهدي سنة إحدى وستين ومائة ولم يزد بعده أحد شيئا ثم عمر الخليفة الناصر سنة ست وسبعين وخمسمائة في صحنه قبة لحفظ حواصل الحرم وذخائره ثم احترق المسجد الشريف بالنار التي خرجت من الحرة في ليلة الجمعة أول شهر رمضان سنة أربع وخمسين وستمائة فكتب بذلك إلى الخليفة المستعصم فأرسل الصناع والآلات مع حجاج العراق سنة خمس وخمسين وستمائة فسقفوا في هذه السنة الحجرة الشريفة وما حولها إلى الحائط القبلي والشرقي إلى باب جبريل وسقفوا الروضة الشريفة إلى المنبر ثم قتل الخليفة سنة ست وخمسين واستولى التتار على بغداد فوصلت الآلات من صاحب اليمن الملك المظفر يوسف بن عمر بن رسول فعمل إلى باب السلام ثم عمل من باب السلام إلى باب الرحمة من سنة ثمان وخمسين من جهة صاحب مصر الملك المظفر قطن المعزى ثم انتقل الملك آخر هذه السنة إلى الملك الظاهر بيبرس الصالحي فعمل في أيامه باقي المسجد وجعلت الأبواب أربعة ثم لما حج سنة سبع وستين اراد أن يدير على الحجرة الشريفة داربزينا من خشب فقاس ما حولها بيده وأرسله سنة ثمان وستين وعمل له ثلاثة أبواب وطوله نحو مائتين ثم في سنة ثمان وسبعين في أيام الملك المنصور قلاوون عملت القبة على الحجرة الشريفة ثم في سنة أربع وتسعين في أيام الملك العادل كتبغا زيد في الداريزين الذي على الحجرة حتى وصل بسقف المسجد الشريف ثم في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون في سنة إحدى وسبعمائة جدد سقف الرواق الذي فيه الروضة الشريفة ثم جدد السقف الشرقي والغربي في سنة خمس وسبعمائة ثم أمر بعمارة المنارة الرابعة مكان التي هدمها سليمان بن عبد الملك فعمرت سنة ست وسبعمائة ثم أمر بإنشاء الرواقين في صحن المسجد من جهة القبلة في سنة تسع وعشرين وسبعمائة ثم في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون جددت القبة التي على الحجرة الشريفة ثم أحكمت في أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد ابن قلاوون سنة خمس وستين وسبعمائة بأن سمر عليها ألواح من خشب ومن فوقها ألواح الرصاص ثم في أيام سلطان العصر الملك الأشرف قايتباي في شهر رمضان سنة ست وثمانين وثمانمائة عمر قبة أخرى وأشياء في المسجد ثم أعقب ذلك نزول صاعقة من السماء فأحرقت المسجد بأسره وذلك في ليلة ثالث عشر رمضان سنة ست وثمانين فأرسل السلطان الصناع والآلات سنة سبع وثمانين وعليهم الخواجا شمس الدين بن الزمن فهدم الحائط القبلية وأراد أن يبني بجوار المسجد مدرسة باسم السلطان ويجعل الحائط مشتركا بين المسجد والمدرسة ويفتح فيه بابا يدخل منه إلى المسجد وشبابيك مطلة عليه فمنعه جماعة من أهل المدينة فأرسل يطلب مرسوما من السلطان بذلك فبلغه منع أهل المدينة فقال استفتوا العلماء فأفتاه القضاة الأربعة وجماعة بالجواز وامتنع آخرون من ذلك وجاءني المستفتي يوم الأحد رابع عشري رجب من السنة المذكورة فجمعت الأحاديث المصدر بها وأرسلتها لقاضي القضاة الشافعي فذكر أنه يرى اختصاصها بالجدار النبوي وقد أزيل وهذا الجدار ملك السلطان يفتح فيه ما شاء ولا يصير وقفا إلا بوقفه فذكرت الجواب عن ذلك من تسعة وعشرين وجها وألحقتها بالأحاديث مع ما ذكر معها وأفردتها تأليفا، ورأيت ليلة الثلاثاء سادس عشري رجب في المنام النبي صلى الله عليه وسلم وهو في همة وأنا واقف بين يديه فأرسلني لا أدري إلى عمر أو غيره ولا أدري هل أرسلني إليه لأدعوه أو لأبلغه رسالة ولم أضبط من المنام إلا هذا القدر فاستيقظت وأنا أرجو أن لا يتم لهم ما أرادوه ثم برز مرسوم السلطان بالفتح حسبما أفتاه من أفتاه وسافر القاصد بذلك في أواخر رجب وارسل الرجلان من كبار أرباب الأحوال يخبراني أن هذا الأمر لا يتم ففي رمضان جاء الخبر بأن ذلك قد رجع عنه وعدلوا إلى الفتح من الجهة الغربية وأفتى بعض الحنفية بجواز ذلك لأن دار أبي بكر رضي الله كانت من تلك الجهة وكان له باب مفتوح فيفتح نظيره فوجب النظر في ذلك. فأقول قد ثبت في الأحاديث السابقة وقرر العلماء أن ابا بكر رضي الله عنه لم يؤذن له في فتح الباب بل أمر بسد بابه وإنما اذن له في خوخة صغيرة وهي المرادة في حديث البخاري فلا يجوز الآن فتح باب كبير قطعا وليس لأحد أن يقول إن المعنى الاستطراق فيستوي الباب والخوخة في الجواز لأن النص من الشارع صلى الله عليه وسلم على التفرقة حيث أمر بسد بابه وابقى خوخته بمنع من التسوية والإلحاق وأما جواز فتح الخوخة الآن فأقول لو بقيت دار أبي بكر واتفق هدمها وإعادتها أعيدت بتلك الخوخة كما كانت بلا مرية وكان يجب مع ذلك أن يعاد مثل تلك الخوخة قدرا ومحلا فلا تجوز الزيادة فيها بالتوسعة ولا جعلها في موضع آخر من الحائط اقتصارا على ما ورد الأذن من الشارع الواقف فيه لكن دار أبي بكر هدمت وأدخلت في المسجد زمن عثمان وهل يجوز أن يبنى بإزائها دار يفتح منها خوخة نظير ذلك فيه نظر وتوقف فيحتمل المنع وهو الأقرب لن تلك خصيصة كانت لأبي بكر فلا تتعدى داره ويحتمل الجواز لأمرين أحدهما أن حق المرور قد ثبت من هذه البقعة التي بإزاء دار أبي بكر إلى المسجد بواسطة دار أبي بكر فيستمر والثاني لا أبديه خوفا أن يتمسك به المتوسعون وعلى الاحتمال فإنما يجوز بشرطين يتعذر الآن وجودهما أن يكون الذي يفتح بقدر تلك الخوخة لا أوسع منه وأن يكون على سمتها لا في محل آخر والأمران لا يمكن الوقوف عليهما الآن للجهل بمقدار تلك الخوخة ومحلها وإذا لم يتحقق وجود الشرط امتنع المشروط فتلخص من ذلك القطع بالمنع من الخوخة ومن الشبابيك أيضا وبتحقق وجود الشرطين يجاب عن الأمر الثاني الذي رمزت إليه ولم أبده إن عثر عليه عاثر هذا ما عندي في ذلك. (خاتمة): وأما كسوة الحجرة الشريفة فأول من كساها ابن أبي الهيجاء وزير ملك مصر بعد أن استأذن الخليفة المستضيء فكساها ديباجا أبيض ثم بعد سنتين أرسل الخليفة المستضيء كسوة ديباجا بنفسجيا ثم أرسل الخليفة الناصر لما ولي كسوة من الديباح الأسود ثم لما حجت أم الخليفة وعادت أرسلت كسوة كذلك ثم صارت ترسل الكسوة من جهة مصر كل سبع سنين من الديباج الأسود. ذكر ذلك الأقفهسي.
|